الأحد، 21 نوفمبر 2010

قصّة الغدير

قصّة الغدير:



في السنة العاشرة للهجرة أعلن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) بشكل رسمي ولأول مرة النفير العام للحج، وأن يحضر جميع الناس في تلك المراسم مهما استطاعوا، وسُمِّيت هذه السفرة بــ "حجة الوداع".
وكان الهدف النبوي من هذه السفرة بيان ركنين من أركان الإسلام ليتمَّ بهما تبليغ الرسالة: أحدهما الحج، والآخر الخلافة والولاية على الأُمَّة بعده.
وخرجت القافلة النبوية العظيمة إلى الحج، وأدَّى المسلمون مناسكهم بتعليم مباشر من النبي(صلى الله عليه وآله). وبعد الانتهاء من هذه المناسك أمر(صلى الله عليه وآله) بلالا أن ينادي بالناس: "لايبقى غداً أحد الاّ خرج إلى غدير خم".
تحرَّكت القافلة العظيمة التي كانت تضم 120000 من المسلمين نحو الغدير، يوم الخميس الخامس عشر من ذي الحجة، بعد ثلاثة أيام من مراسم الحج.
الاحتفال العظيم في الغدير:
وقبيل الظهر من يوم الاثنين الثامن عشر من ذي الحجة ولدى وصولهم إلى منطقة "غدير خم"، تسمَّر النبي(صلى الله عليه وآله) في مكانه وأصدر أمره إلى المسلمين بالتوقف. فتوقَّفت القافلة كلها في منطقة الغدير، وأخذ كل فرد يتدبَّر أمر إقامته هناك حيث نصبوا خيامهم وسكن الضجيج تدريجياً.
وبأمر من رسول الله (صلى الله عليه وآله) قام المقداد وسلمان وأبوذر وعمار بكسح الأشواك تحت أشجار كانت هناك ورفع الأحجار وقطع الأغصان المتدلِّية إلى الأرض، ونظَّفوا المكان ورشُّوه بالماء، ومدُّوا ثياباً بين شجرتين لتظليل المكان. ثم بنوا المنبر في وسط الظل، فجعلوا قاعدته من الأحجار ووضعوا عليها بعض أقتاب الإبل، حتى صار بارتفاع قامة ليكون مشرفاً على الجميع يرون النبي(صلى الله عليه وآله) ويسمعون صوته، وفرشوا عليه بعض الثياب.
وبعد إقامة الصلاة ظهراً رقى النبي(صلى الله عليه وآله) المنبر ووقف على أعلى مرقاة منه. ثم دعا بأميرالمؤمنين (عليه السلام) وأمره أن يصعد المنبر ويقف إلى يمينه. فجاء أميرالمؤمنين (عليه السلام) ووقف على المنبر أدنى من موقف النبي(صلى الله عليه وآله) بمرقاة بحيث وضع النبي(صلى الله عليه وآله)يده على كتفه.
وشرع النبي(صلى الله عليه وآله) في خطبته التاريخية، آخر خطبة رسمية له إلى العالم أجمع، التي لم يذكر التاريخ خطبة لنبي من الأنبياء عبر التاريخ مثلها في مثل هذا الحشد المهيب الذي اجتمع فيه أكثر من مائة وعشرين ألفاً.
وربما استغرقت خطبة النبي(صلى الله عليه وآله) في الغدير نحو ساعة، لأنها كانت شاملة ومفصلة. وقد قسَّمناها إلى إحدى عشرة فقرة:
ففي الفقرة الأُولى من الخطبة بدأ النبي(صلى الله عليه وآله) بحمد الله والثناء عليه، ذاكراً صفاته وقدرته ورحمته، شاهداً على نفسه بالعبودية المطلقة أمام الذات المقدسة.
وفي الفقرة الثانية ألفت النبي(صلى الله عليه وآله) المسلمين إلى الهدف الأصلي من الخطبة، وأخبرهم أن الوحي نزل عليه، وأنه يجب عليه إبلاغهم الأمر الإلهي في علي بن أبي طالب، وإن لم يفعل فلايؤمن عليه من عذاب الله وعقابه!
وفي الفقرة الثالثة أعلن النبي(صلى الله عليه وآله) إمامة اثني عشر إماماً من عترته إلى آخر الدنيا، لكي يقطع بذلك طمع الطامعين بالسلطة بعده نهائياً.
ومن النقاط المهمة في هذه الخطبة الشريفة بيان النبي(صلى الله عليه وآله)عصمة الأئمة من بعده ونيابتهم عن الله تعالى ورسوله في أُمور الدين والدنيا. ثم أوضح النبي(صلى الله عليه وآله) ببيانه الرائع ارتباط ركني الإسلام: القرآن والعترة.
وفي الفقرة الرابعة من الخطبة وعندما كان أميرالمؤمنين (عليه السلام)واقفاً على المنبر إلى جانب النبي(صلى الله عليه وآله) أدنى منه بمرقاة، قال(صلى الله عليه وآله)له: "ادن مني". فاقترب منه أميرالمؤمنين (عليه السلام) فأمسك النبي(صلى الله عليه وآله) بعضديه ورفعه من مكانه حتى حاذت قدماه ركبة النبي(صلى الله عليه وآله) وشاهد الناس بياض إبطيهما، وقال عند ذلك:

من كنـت مولاه فهـذا علي مولاه، الّلهمَّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله.

وبعد هذا المقطع من الخطبة الشريفة أعلن النبي(صلى الله عليه وآله) للناس نزول ملك الوحي عليه يخبره عن إكمال الدين وإتمام النعمة بولاية أميرالمؤمنين (عليه السلام).
في الفقرة الخامسة قـال النبي(صلى الله عليه وآله): "من لم يأتـمَّ به وبمـن يقوم مقامه من ولدي من صلبه إلى يوم القيامة، والعرض على الله عز وجل فأُولئك الذين هبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون". ثم قال(صلى الله عليه وآله): "معاشر الناس، قد استشهدت الله وبلَّغتكم رسالتي، وما على الرسول إلاّ البلاغ المبين".
وفي الفقرة السادسة، بعد أن تلا النبي(صلى الله عليه وآله) عدة من آيات التحذير من العذاب، قال:
بالله ما عنى بهذه الآية إلا قوماً من أصحابي أعرفهم بأسمائهم وأنسابهم وقد أمرت بالصفح عنهم، لأن الله عز وجل قد جعلنا حجةً على المقصرين والمعاندين والمخالفين والخائنين والآثمين والظالمين والغاصبين من جميع العالمين.
ثم أشار(صلى الله عليه وآله) إلى أعداء الإسلام، الأئمة الذين يدعون إلى النار وقال: "معاشر الناس، إنه سيكون من بعدي أئمةٌ يدعون إلى النار ويوم القيامة لاينصرون. معاشر الناس، إن الله تعالى وأنا بريئان منهم".
ثم أشار النبي(صلى الله عليه وآله) إلى وثيقة صحيفة المؤامرة التي كتبها بعض صحابته في حجة الوداع في مكة ووقَّعوا عليها، فقال: "ألا إنهم أصحاب الصحيفة"!
ثـم بيَّـن النبـي(صلى الله عليه وآله) فـي الفقــرة الســابعـة بـركـات ولايـة أهل البيت (عليهم السلام) ومحبتهم، وتلا على الناس سورة الحمد التي هي أُمُّ الكتاب وقال: "فيَّ نزلَت وفيهم والله نزلت، ولهم عمَّت وإياهم خصَّت".
ثم تلا(صلى الله عليه وآله) آيات عن أصحاب النار وصرَّح بأن المراد بهم أعداء أهل البيت (عليهم السلام).
وفي الفقرة الثامنة من خطبة الغدير تطرَّق النبي(صلى الله عليه وآله) إلى ذكر الإمام المهدي أرواحنا فداه، فذكر أوصافه وبشَّر العالَم بالعدل والقسط على يده.
ثم تطرَّق إلى مسألة البيعة في الفقرة التاسعة وبيَّن أهميتها وقيمتها وقال(صلى الله عليه وآله):
فأمرت أن آخذ البيعة منكم والصفقة لكم بقبول ما جئت به عن الله عز وجل في علي أميرالمؤمنين والأوصياء من بعده.
وأشار إلى أن هذه بيعة الله قائلا: "ألا وإني قد بايعت الله، وعليٌّ قد بايعني، وأنا آخذكم بالبيعة له عن الله عز وجل".
وفي الفقرة العاشرة من خطبة الغدير تنبَّأ النبي(صلى الله عليه وآله) بمستقبل المسلـمين ومـا سيـواجهـونه مـن مصـاعـب، وعيَّـن لـهـم أميرالمؤمنين (عليه السلام) المرجع في ذلك. كما أوجب على المسلمين إبلاغ خطاب الغدير إلى غيرهم تطبيقاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ هو أعظم مصداق لذلك.
وفي آخر فقرة من الخطاب النبوي أخذ(صلى الله عليه وآله) في أمر البيعة قائلا:
قد أمرني الله عز وجـل أن آخـذ من ألسنتـكم الإقـرار بما عقدتُ لعليٍّ أميرالمؤمنين ولمن جاء بعده من الأئمة.
ثم عيَّن عبارة فيها طاعة الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) والمبايعة بالقلب واللسان واليد، والميثاق على عدم التغيير والشك والجحد وأداء هذه الأمانة إلى الأجيال. ثم أمرهم أن يردِّدوا ما ذكره.
فاستجاب المسلمون وفعلوا ما أمرهم به النبي(صلى الله عليه وآله) وردَّدوا ما قاله، وتمَّت البيعة العامة بهذه الصورة، والنبي(صلى الله عليه وآله) واقف على المنبر.
وفي ختام الخطبة الشريفة دعا النبي(صلى الله عليه وآله) للمبايعين كما دعا على المعاندين، وختم خطبته الشريفة بالحمد لله رب العالمين.
البيعة العامة:
وبعد انتهاء النبي(صلى الله عليه وآله) من خطبته ضج الناس قائلين: "نعم، سمعنا وأطعنا لأمر الله ورسوله بقلوبنا وأنفسنا وألسنتنا وأيدينا".
ثم إنهم تزاحموا على النبي وأميرالمؤمنين (عليهما السلام) وتسابقوا إلى التهنئة بهذه المناسبة.

ومن أجل تأكيد البيعة شرعياً ورسمياً أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله)بعد الانتهاء من الخطبة أن تنصب خيمتان: أحدهما خاصة به والأُخرى لأميرالمؤمنين (عليه السلام)، وأمره بالجلوس فيها وأمر الناس بأن يهنِّؤوه ويبايعوه.
وأقبل الناس مجاميع، كل مجموعة تدخل أولا إلى خيمة الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) ويبايعونه ويباركون له هذا اليوم، ثم يذهبون إلى خيمة أميرالمؤمنين (عليه السلام) ويهنِّؤونه ويبايعونه بخلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله) والإمامة من بعده، ويسلِّمون عليه بإمرة المؤمنين.
واستمرت هذه المراسم ثلاثة أيام حتى شارك المسلمون جميعهم في البيعة.
وأمر النبي(صلى الله عليه وآله) النساء كذلك بالبيعة لعلي (عليه السلام) بإمرة المؤمنين وتهنئته، وقد أكَّد ذلك بصورة خاصة على زوجاته وأمرهن أن يذهبن إلى خيمته ويبايعنه!
فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بإحضار إناء كبير فيه ماء، وأن يضرب عليه بستار بحيث إن النساء كنَّ يضعن أيديهن في الإناء خلف الستار، وأميرالمؤمنين (عليه السلام) يضع يده في الإناء من الجانب الآخر، وبهذه الصورة تمت بيعة النساء.
وأمـر النبي(صلى الله عليه وآله) مناديـه أن يمشي بين النـاس ويكرر عليهم جوهر بيعة الغدير بهذه العبارة: "من كنت مولاه فهذا على مولاه، اللّهمَّ وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله".
وأهدى الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) في يوم الغدير عمامته التي تسمى "السحاب" ووضعها على رأس أميرالمؤمنين (عليه السلام) وألقى بحنكها على كتفه، على ما كان من عادة العرب عند إعلان رئاسة شخص.
وفي ذلك اليوم تقدَّم حسّان بن ثابت الشاعر إلى النبي(صلى الله عليه وآله)واستأذنه أن يقول شعراً بمناسبة الغدير. فأذن(صلى الله عليه وآله) له وألقى حسان أول قصيدة عن الغدير في ذلك المكان لتبقى سنداً حياً وتاريخياً للواقعة.
وظهر جبرئيل في الغدير بشكل رجل حسن الصورة طيب الريح واقفاً بين الناس وقال:
إنـه عَقَـدَ لـه عقـداً لا يحلُّـه إلا كـافـر بـالله العظيـم وبرسوله الكريم. ويل طويل لمن حلَّ عقده!
وفي اليوم الثالث من الغدير جاء رجل من المنافقين وقال: "اللّهمَّ ان كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم".
فرماه الله بحجر ; فسقط على هامته وخرج من دبره فقتله ; وأنزل الله تعالى: "سأل سائل بعذاب واقع". وبهذه المعجزة ثبت للجميع أن أمر الغدير صادر من منبع الوحي، وأنه أمر من الله عز وجل.
وهكذا تمت مراسم الغدير في ثلاثة أيام وعرفت بعد ذلك بــ "أيام الولاية"، وبقيت أحداثها راسخة في الأذهان.
ثم توجَّه النبي(صلى الله عليه وآله) إلى المدينة بعد أن أوصل أمانة النبوة إلى مقصدها، وتوجَّهت جموع المسلمين والقبائل إلى مناطقهم وديارهم.
وسرعان ما انتشر خبر الغدير في المدن والمناطق وتسامع الناس ببيعة الغدير وخطبته، وبذلك أيضاً أتم الله تعالى حجته على عباده كما قال أميرالمؤمنين (عليه السلام): "ما علمت أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ترك يوم الغدير لأحد حجة ولا لقائل مقالا".


اللّهُـمَّ لك الحمـد على نعمـة الغديـر وولايـة الأميـر... والحمد لله الذي جعلنا مـن المتمسكين بولاية أميرالمؤمنين والأئمـة المعصومين من ولده صلوات الله عليهم أجمعين.

ليست هناك تعليقات: